المقوم الرابع
أما المقوم الرابع من مقومات برنامج التدخل المبكر لتنمية مهارات اللغة والتواصل لدى الأطفال الصم فهو يتعلق بتقديم الإرشاد النفسي والعلاجي لمن يحتاجه من الآباء بما يضمن تكوين اتجاه إيجابي سليم نحو أطفالهم الصغار المعوقين سمعياً، وبما يساعدهم على التخلص من اتجاهاتهم السلبية أو مشاعرهم المَرَضيّة الناجمة عن ابتلاء أحد أفراد أسرهم بكارثة الصمم،
وبداية تجدر الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من معلمي ومعلمات الصم لم يسبق لهم أن تلقوا من التدريب ما يكفي للتعامل مع الاحتياجات النفسية والعاطفية لهذا النوع من الآباء والأمهات. ومن هنا فإن من بين الطرق التي يمكن اللجوء إليها للتغلب على افتقارهم في هذا الجانب الإرشادي والعلاجي من البرنامج أن يستعان بأحد العاملين في المدرسة كالأخصائي الاجتماعي أو أخصائي الإرشاد والتوجيه النفسي(الشناوي،1998)، أو أن يُحتفَظ على الأقل بمثل هذا الفرد للقيام بإرشاد وتوجيه هؤلاء الآباء بالقدر الذي يخفف مما تجيش به صدورهم من مشاعر الحزن والقلق وخيبة الأمل والشك في قدرة أطفالهم على تحقيق أي قدر من النمو في مهارات اللغة والتواصل. ويجدر به في هذه الحالة أن يكون قادراً على تزويد المعلمين والمربين ببصيرة نافذة تمكنهم من التغلغل بعمق في مشكلات التوافق والدافعية الشائعة بين أُسَر صغار الصم وذوبهم. كما يقدم الخدمات المتخصصة لهؤلاء الآباء الذين طالما استجابوا لإعاقة أطفالهم بالحزن والأسى واليأس وخيبة الأمل (الفوزان،2000).
وعلى الرغم من أن هذا الجانب الإرشادي العلاجي من برنامج التدخل المبكر لتنمية مهارات اللغة والتواصل غير معهود في نظمنا التربوية الخاصة، وعلى الرغم كذلك مما يستلزمه هذا الجانب من تكاليف باهظة وجهود متخصصة إلا أنه ينبغي للمسئولين عن برامج تربية المعوقين سمعيا الاقتناع بأن الثمار المرجوّة من ورائه تفوق إلى حد كبير تلك التكاليف والجهود اللازمة لتقديمه، خاصة وأنه يسهم في التعامل بفعالية مع المرحلة المبكرة من حياة الطفل الأصم والتي تعتبر أخصب الفترات وأثمنها لمعالجة مشكلاته في اللغة والتواصل (الشناوي،1998).
فإذا لم يتوفر مرشد نفسي متخصص للقيام بإرشاد الآباء وتوجيههم في هذا الجانب فإن مسئولية التعامل مع مشكلاتهم الأسرية والنفسية المعقدة تقع على عاتق المُدَرسين بالرغم من أنهم ( أى المدرسون) لم يُعَدّوا بالطبع لتحمل مثل هذه المهمة الصعبة(عملا بمبدأ الأخذ بأخفّ الضررين). وإذا لم يكن هناك بُدٌّ من قيام المدرس (أو المُدَرّسة) بهذا الجانب الإرشادي فإنه يتوجَّب عليه أن يكون مستمعاً جيداً يجيد الإصغاء إلى ما يدلي به بعض الآباء من مشكلات يواجهونها مع صغارهم الصم. وقد يكون من المناسب له في اللقاءات الأولى مع الأب أو الأم أن يقضي جزءا كبيراً من الوقت مستمعاً فقط إليهما وهما يتحدثان عن خبراتهما ومشاعرهما منذ ولادة طفلهما واكتشاف الصمم فيه (الشناوي، 1998).
وعلى الرغم من أنه من الطبيعي أن يشعر معظم المدرسين والعاملين في البرنامج بعدم الارتياح لسماع بعض الآباء أو الأمهات وهم يتحدثون عن مشاعرهم الوجدانية الحزينة إلا أننا إذا أردنا مساعدتهم حقا فإنه يتوجب علينا أن نتقمص مشاعرهم وأن نضع أنفسنا في أماكنهم لكي نتمكن من التعامل مع مشاعر الحزن والألم التي يعبرون عنها، والتوفيق بينها وبين مشاعرنا الخاصة بعدم الارتياح لما نسمعه منهم. وقد يكون من الأفضل للمدرسين اللجوء في هذا المقام إلى مبدأ "الاعتناق أو التقمص العاطفي empathy " كأفضل وسيلة للتعبير من جانبهم عن استجاباتهم الإيجابية الهادفة وتقديرهم المخلص لمشاعر هؤلاء الآباء وهم يُفيضون في الحديث عنها (الشناوي،1998).
أضف إلى ذلك أنه يجدر بالمدرس الذي يتعامل مع آباء الأطفال الصم أن يتعلم كيف يتقبل منهم كل ما في وسعهم القيام به من تعديل أو تغيير في شئون حياتهم، وما يتخذونه من استعدادات واسعة للتعايش مع مشكلات أطفالهم وتقَبُّلهم رغم إعاقنهم. كما ينبغي له أن يدرك أن بعض هؤلاء الآباء ــ إن لم يكن معظمهم ــ لا يقومون ببساطة بفعل كل ما يُطلَب منهم أو يتوجّب عليهم القيام به من أجل مصلحة أطفالهم الصم، بل إنهم يقدمون فقط لأطفالهم كل ما في مقدورهم تقديمه في إطار من ظروفهم العائلية الخاصة، وإمكاناتهم المحدودة، والضغوط الكثيرة التي يواجهونها في حياتهم من أجل سدّ احتياجات جميع أفراد أسرهم (الفوزان،2000).
كذلك فإنه يتوجب على المدرسين العاملين في برامج التدخل المبكر أن يدركوا أن المدرس المثالي الكامل لم يوجد بعدُ، وأنه من الطبيعي أن يكون لهم قصورهم النفسي والمهني الخاص بهم أنفسهم، وألاّ يكون في صدرهم حَرَج من عجزهم ببساطة عن تقديم الخدمات الإرشادية النفسية والعلاجية الأكثر تلاؤما مع كل حالات الأسَر التي يواجهونها في البرنامج، إذ أن كثيرا من الحالات الأُسَرية التي يتعاملون معها تعتبر مَرَضيَّة إلى حد كبير، وقد ترجع بصفة أساسية إلى كثير من المشاكل النفسية التي عانت منها تلك الحالات قبل اكتشاف الصمم في أطفالهم والتحقق من ثبوته لديهم.
وبالتالي فإنه يتوجّب على المدرسين المتصدين للتعامل مع تلك الحالات الأُسَرية المَرَضيّة ـــ إن وُجِدت ــ أن يكونوا يقظين ومنتبهين إلى ما قد يكون هناك من حاجة بعض الآباء إلى الإحالة إلى إحدى المؤسسات المحلية المتخصصة في العلاج النفسي لمساعدتهم وإرشادهم نفسياً، كما ينبغي لهم أن يُلِمُّوا بما يتوفر في البيئة المحلية من إجراءات ووسائل يمكنهم اللجوء إليها لإحالة مثل هذه الحالات المستعصية إلى تلك المؤسسات (الشناوي1998).
ومن المهم في غالب الأحيان أن يبدي أعضاء الفريق العامل في البرنامج اهتماماً لا بوالدي الطفل الأصم فقط، بل وأن يهتموا كذلك بأفراد أسرته بأكملها بحيث يشمل ذلك أشقّاء الطفل وأقاربه وأعضاء أسرته الممتدة كأجداده وجداته وغيرهم. إذ يجدر ببرنامج التدخل المبكر الفعال أن يوفر الإمكانات والوسائل اللازمة للكشف عن مشاعر هؤلاء الأفراد جميعاً تجاه هذا العضو الصغير من أعضاء أسرتهم، وأن يقوم المدرسون بتوفير معلومات إضافية في هذا الصدد حتى تكون جهودهم التي يبذلونها لرعايته في هذه المرحلة المبكرة من عمره مكملة ومساندة لجهود آبائهم وأمهاتهم.
وموجز القول في هذا الجانب الإرشادي العلاجي من البرنامج أن المدرسين الذين لا يجدون في أنفسهم كفاءة أو رغبة كافية في التعامل مع أُسَر بالغي الصِّغَر من الأطفال الصم وما يحمله بعض أولياء أمورهم في بداية البرنامج من مشاعر الألم والأسى واليأس تجاه إعاقة أطفالهم وعجزهم عن تعلم مهارات اللغة والتواصل بشكل طبيعي ـــ هؤلاء المدرسون ـــ ينبغي لهم ألا يستمروا في العمل في برامج التدخل المبكر، وأن يتحولوا عنها إلى العمل في برامج أخرى متقدمة كالمرحلة التمهيدية أو المرحلة الابتدائية .(Oyer,1976)
المقوم الخامس
ويتعلق بتعريف الآباء بالخطط والاستراتيجيات الكفيلة بتشجيع أطفالهم على اكتساب مهارات اللغة والتواصل وتعلمها.
فعندما ينضم الآباء إلى هذا البرنامج فإنه يجدر بالعاملين فيه تقديم تعليمات لهم فور انضمامهم فيما يتعلق بالأنشطة التي هم على وشك القيام بها مع أطفالهم لمساعدتهم على تعلم التواصل واكتساب مهارات اللغة. وينبغي تقديم تلك التعليمات بشكل عاجل لكل والدين مصحوبة بإرشادهما وتوجيههما، وبطرق مختلفة تضمن لهما بعض النجاح. ويعتبر تعليم الوالدين وإرشادهما بصفة فردية في بداية البرنامج من أكثر الطرق فعالية وتدعيماً لنجاحه. ومع مرور الوقت وشعور الوالدين بألفة كافية وارتياح أكثر للفعاليات والأنشطة التي يتضمنها البرنامج فإنه ينبغي السماح لهما بالانضمام إلى الأنشطة الجماعية التي يقوم بها من سبقوهما إليها من آباء وأمهات .(Northcott,1977)
هذا وينبغي العلم بأنه ليس هناك من دافع لتشجيع الآباء على المواظبة على الحضور إلى البرنامج والمثابرة على الاشتراك في فعالياته وأنشطته أقوى من شعورهم باقتناع ذاتي مباشر بأنهم يتعلمون بالفعل كيف يتواصلون مع أطفالهم الصم وكيف يتعلقون بهم، وأن ذلك لم يكن ليتم لو أنهم أعرضوا عن الانضمام إليه والمشاركة في فعالياته. ولتحقيق هذه الغاية فإنه ينبغي لفريق العمل في البرنامج أن يتيحوا لهم عديدا من الفرص التي تمكِنهم من ملاحظة غيرهم من الآباء الذين سبقوهم إلى البرنامج وهم يعملون مع أطفالهم. وبطريقة مشابهة فإنهم يحتاجون كذلك إلى ملاحظة الآخرين لهم، لأن ذلك يسهم في استفادتهم مما يوجَّه إليهم من نقد هادف وبناء. وتعتبر الأنشطة التدريبية الفعلية التي يقوم بها الآباء ـ والتي يمكن أن تكون مسجلة على أشرطة " الفيديو " ــ من أكثر الطرق فعالية وفائدة لتحقيق هذا الهدف الأخير بصورة خاصة.
وينبغي تشجيع الآباء على أن يدمجوا في أساليبهم الخاصة التي يستخدمونها مع صغارهم الصم ما يستخدمونه عادة مع أطفالهم العاديين من إجراءات عادية لتنمية مهاراتهم في اللغة والتواصل. ومن الممكن توضيح ذلك بصورة عملية من خلال إرشادهم وتوجيههم إلى اتباع الإجراءات التالية:
1) يقوم الآباء بالتحدث إلى أطفالهم الصم في جمل قصيرة مركبة من مفردات ثابتة لا تتغير (على الأقل في البدايات الأولى من التدريب).
2) يقوم الآباء أولاً بِحَثّ الطفل على الكلام، ثم باستخدام طرق مختلفة لبسط الجمل وإطالتها، وعندما يبدأ الأطفال في التحدث فإن على الآباء أن يتحولوا إلى استخدام طرق أكثر دقة وبراعة كتوجيه الأسئلة إلى الأطفال وضرْب الأمثلة ببعض الجمل الملائمة للإجابة عنها.
3) يسوق الآباء حديثهم إلى أطفالهم الصم الصغار بدرجة عالية من التنغيم والإيقاع الملائمين لسياق هذا الحديث.
4) يقوم الآباء بإثارة اهتمام أطفالهم بالموضوع الذين هم على وشك البدء بالحوار والمحادثة حوله، وبعد أن يتم لهم التأكد من إلمام أطفالهم بموضوع الحوار والمحادثة والاستحواذ على اهتمامهم يحَوّلون مجرى الحديث إلى تعليقات تدور حوله بحيث يشجعون أطفالهم على استخدام هذه الطريقة نفسها.
5) ينبغي للوالدين الحرص على تعويض طفلهما عما يعانيه من عائق سمعي بإجلاسه ـــ أو تعديل جِلسته ــ بحيث يكون في وضع بدني يمَكِّنه بأقصى قدر ممكن من أن يرى ويسمع مَن حوله من الراشدين والكبار المتواجدين في موقع التدريب.
ولكي نوضح تلك الإجراءات بصورة عملية دعنا نتخيل المشهد التالي لإحدى الأمهات وهي جالسة على سجادة مع طفلها المسمّى " أحمد " والذي يبلغ من العمر 18 شهراً:
o فها هو الصغير أحمد على وَشَك البدء باللعب بكرة كبيرة ملونة.
o وها هي أمُّ أحمد تستحوذ على بصر ولدها الصغير بالإمساك بالكرة وإخفائها خلف ظهرها.
o ثم تقوم الأم بإحضار الكرة فجأة أمام ناظريه وهي تبتسم.
o ثم ترفع الكرة إلى أعلى وهي تشير إليها.
o ثم تقربها بعد ذلك من فمها وهي تقول: " … هيه .. انظر هنا ..انظر .. ها هي الكرة ".
فتعليقها على الكرة وحديثها الذي بدأته عنها بهذه الطريقة يؤدي وظيفتين هامتين في هذا السياق:
أولاهما: أنه يخدم الحوار بين الأم وطفلها بوصفه وسيلة لتنغيم وإيقاع ذكيين لنطق بقية الجمل التي تليه.
ثانيتهما: أنه وسيلة لفظية " منطوقة " استخدمت لجذب اهتمام الطفل إلى موضوع الحوار.
وحالما يتم تثبيت موضوع الحوار والمحادثة ( الكرة ) في ذهن الطفل وضمان تَوجّه اهتمامه إليه فإن الأم وولدها أحمد يبدآن في التفاعل معاً وفي تبادل الاستجابات بينهما في إطار (سياق) من اللعب بالكرة. فهي تستأنف كلامها معه مرة ثانية قائلة:
" هيه. . أنا دحرَجْتُ الكرة ..هيّا يا أحمد . .أنت كذلك: دَحرِجْ الكرة ".
فإذا ذهبت الكرة بعيداً عن أحمد فعلى الأم أن تستجيب لذلك بتعبير مناسب منادية:
" هات الكرة يا أحمد ".
فإذا ما عََنَّ للطفل أحمد أن يحاول الاستجابة لأمه ــ إما يدويا بالإشارة أو لفظيا بصوته ليعلق على هذه الحالة ( وهي هنا ذهابه إلى مكان الكرة لإحضارها) ــ فإن أمه سوف تستجيب لمحاولته بإعطائه نموذجاً كلامياً في صورة جملة تقولها له، أو ببسط وإطالة ما حاول أحمد أن ينطق به معلقاً على ذهاب الكرة بعيداً عنه.
فهذا النوع من التفاعل التواصلي بين أحمد وأمه هو نفس التفاعل التواصلي الذي يتم عادة بين الأمهات وأطفالهن العاديين، إذ إن أسلوب الحوار وتبادل الأدوار في الكلام(متحدثا مرة ومستمعا مرة أخرى) يُعدُّ مظهرا أساسيا من مظاهر استخدام اللغة، وبالتالي فإنه ينبغي للآباء أن يجعلوه كذلك جزءاً لا يتجزأ من تدريب أطفالهم المعوقين سمعياً لاكتساب مهارات اللغة والتواصل.
هذا ويجب على المدرسين والمدرسات القائمين بهذا التدريب أن يأخذوا في اعتبارهم أن كثيراً من الآباء والأمهات سيشعرون بشيء من التردد والخجل عند القيام بمحاولاتهم الأولى للتواصل والتفاعل مع أطفالهم على النحو الذي أوضحناه، وتحت توجيه من الآخرين وسمع وبصرغيرهم ممن يراقبونهم من الآباء، وبالتالي فإنه ينبغي للمشرفين على هذا التدريب أن ينظروا إلى هذا الخجل والتردد باعتباره أمراً طبيعياً وموقفا عابرا غير بارع لا يمكن تجَنُّبُه. ولكي يسهم المدرس في تسهيل هذا الموقف على مثل هؤلاء الآباء والأمهات فإنه ينبغي أن يوضح لهم في بداية محاولاتهم أن أي أسلوب يختارونه أو يرونه الأفضل لتدريب أطفالهم سوف يكون موضع تقديره وقبوله، كما أنه ليس من الضروري للآباء ــ ولا حتى من المرغوب فيه ــ أن يحاكوا (يقلدوا) بشكل حرفي دقيق ما يقدمه المدرس من نشاطات عملية إيضاحية للمحاورات والمحادثات التي ينبغي لهم القيام بها مع أطفالهم.
وحين يبدأ الآباء والأمهات محاولاتهم الحقيقية للتواصل مع صغارهم الصم فإنهم غالبا ما يتوقون إلى تحقيق نجاح عاجل في أولى محاولاتهم، ولكن حين يتبين لهم أنهم غير قادرين على تحقيق هذا النجاح كما توقعوه فإنهم قد يستجيبون لهذا الفشل الأََََوََََّلي بتعليقات مختلفة، كأن يقول أحدهم مثلا:
" يبدو أنني لن أُفلح في القيام بهذه المهمة "
أو: " لا مؤاخذة يا أستاذ! لا أدري ماذا أفعل "
أو أن يعلق أب آخر قائلا للمعلم:
" لا أدري يا أستاذ كيف أبدأ .. هل يمكنك ـــ لو تكَرَّمْتَ ـــ أن تقوم بهذه المحاولة بدلاً عني؟.. فأنت أدرى بذلك مني ! ".
ومن هنا فإنه من الضروري أن نوضح للآباء والأمهات كيف يبدأون محاولاتهم الأولى في التواصل مع صغارهم الصم، كما ينبغي إيضاح هذه المحاولات لهم بشكل عملي مبسّط يسهل عليهم القيام بها، إضافة إلى ضرورة أَخْذِهم بالصبر والحلم والرويَّة أثناء الأسابيع (بل الأشهر ) الأولى من البرنامج. وفي نفس الوقت فإنهم سوف يتعلمون التيقظ والتنبه لما يبدو مبكرا على وجوه أطفالهم من دلائل (تعبيرات وجهية ) تشير إلى وَعْي أطفالهم بالتواصل وإدراك أهميته لهم.
المقوم السادس
أما المقوم السادس من مقومات برنامج التدخل المبكر لتنمية مهارات اللغة والتواصل لدى بالغي الصغر من الأطفال الصم فهو يتعلق بنوعية المدرسين الذين يعملون في هذا البرنامج من حيث إعدادهم وتدريبهم المهني. ذلك أنه من الضروري لكل من يعتزم العمل فيه ــــ أو بالأحرى في أية مرحلة من مراحل تربية وتعليم الأطفال الصم ـ أن يكون قد تم إعداده وتدريبه بشكل مكثف للعمل مع الصغار من هؤلاء الأطفال، وأن يكون كذلك قد تلقى تعليماً وتدريباً ملائمين، ولديه معرفة كافية بأسس ومظاهر النمو في اللغة والكلام لدى الأطفال العاديين بوصفها الأساس الذي ينبني عليه المضمون التطبيقي لبرامج تنمية لغة الأطفال الصم وتسهيل اكتسابهم لها، إذ لم يعد من الممكن لأي مدرس أن يعمل مع أية فئة من الأطفال الذين أعيقت لغتهم عن النمو وهو غير مُلِمٍّ على الإطلاق بشيء من أسس نمو اللغة واكتسابها لدى الأطفال العاديين، أو أن يكون قد ألمَّ فقط بالحد الأدنى من المعرفة بهذه الأسس مما يعد في نظر المربين المختصين إلماما سطحيا لا يكفي لتأهيله للعمل في هذا البرنامج .(Streng et al.,1978)
المقوم السابع
أما فيما يتعلق بالمقوم السابع لبرنامج التدخل المبكر لتنمية مهارات اللغة والتواصل لدى صغار المعوقين سمعيا فإنه يتركز في ضرورة إتاحة عدد من طرق التواصل والاختبارات والبدائل التعليمية (التربوية) التي يمكن للمعلمين والآباء الاختيار من بينها بما يتلاءم مع خصائص واحتياجات وإمكانات كل طفل أصم على حدة. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يعد أحد من المختصين في تربية الصم يؤمن بما كان شائعا في الماضي من تزويد كل الأطفال الصم بخبرات تربوية واحدة أو بمنهج تعليمي موحَّد يسير عليه الجميع مهما كانت الفروق بينهم، كما لم يعد مقبولا أن نستخدم في تدريبهم وتعليمهم جميعاً طريقة تواصل واحدة فقط modality communication ( كلغة الإشارة وحدها) دون غيرها من طرق التواصل، إذ إن هذا الاتجاه يتعارض تماماً مع مفهوم " التعليم الفردي individualization of instruction " ، كما يتعارض مع مبدأ التطبيع الاجتماعي social naturalization الذي يعتبر الهدف الأسمى لكل البرامج المهتمة بذوي الاحتياجات الخاصة. كذلك فإن هذا الاتجاه يُذْكي (يقوي) روح العداء والتنافس المحموم والتعصب المهني البغيض بين معلمي الصم وما يستخدمونه مع أطفالهم من طرق تدريسية مختلفة (Streng,1978)، ولطالما أزعج العاملين في تربية الصم وتعليمهم، وكان مصدر بلاء وتأخر بالنسبة لبرامج رعاية وتربية الأطفال المعوقين سمعيا، ولا زلنا حتى يومنا هذا نشهد أثراً لذلك العداء والتعصب في كثير من النظم التربوية العربية الخاصة المهتمة بهذه الفئة من الأطفال، والتي تُصِر على اعتبار إما" لغة الإشارة " فقط أو " اللغة المنطوقة " فقط وسيلة التواصل الوحيدة والمثلي التي يجب تعليمها للأطفال والتلاميذ المعوقين سمعيا ، كما توجب استخدامها دون غيرها من الطرق من قِبَل الآباء والمدربين والمدرسين في كل مناحي تدريب وتدريس هؤلاء الأطفال.
ومن هنا فإنه يجدر بأي برنامج تربوي معاصر يهدف إلى تنمية مهارات اللغة والتواصل لدى صغار الصم في مرحلة ما قبل المدرسة (بل وفي غيرها مما يُستَقبَل من مراحل) أن يوفر للعاملين فيه وأولياء الأمور المنضمين إليه إمكانية تحقيق هذا الهدف عن طريق طرح بدائل عديدة من طرق التواصل communication modalities سواء أكانت هذه البدائل لفظية شفهية، أم يدوية إشارية، أم تواصلاً كلياً، أم غيرها مما يؤدي إلى فعالية التواصل والتفاعل فيما بينهم وبين أطفالهم( الدماطي،2005).
وقد يكون من المناسب في هذا المقام أن نوضح موقفنا من طريقة التواصل الكلي (أو الشامل) total communication ومن مفهوم هذا المصطلح الذي أصبح يتخذ معان كثيرة ومتنوعة لدى كثبر من العاملين مع هذه الفئة من المعوقين. إننا نعتقد أن هذا المصطلح حين يُطلَق فإنه يعني إحدى طرق التواصل التي تجمع بين الطريقة اللفظية السمعية oral method - aural(كالكلام) وواحدة من طرق(أنواع) النظام الإشاري البصري visual sign system الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع على الأقل:
1- لغة الإشارة (أو الإشارات الوصفية) التي يستخدمها الصم فيما بينهم فقط.
2- الأنظمة العديدة والمتنوعة للغة الإشارة والتي طورها عديد من المربين المهتمين بتربية الصم لكي يوفقوا بين لغة الإشارة الخاصة بالصم واللغة المنطوقة (الكلام).
3- أمـا النوع الثالث فهو أبجدية الأصابع finger spelling ( أو ما يسمَّى أحيانا بالتهجي الإصبعي) الذي يستخدم أوضاعاً وتشكيلات يدوية مستقلة لكل حرف من حروف الهجاء، كما هو الحال في اللغة المكتوبة .(Quigley & Paul,1984b)
ومها تكن الانتقادات التي وجهها بعض المختصين إلى طريقة التواصل الكلي (الشامل) وإلى عناصرها المختلفة فإنه يمكن القول بأن هذه الطريقة تعاني من كثير من جوانب القصور التي توجب على المسؤولين عن تربية الصم وتدريبهم أن يكونوا على جانب كبير من الحذر والحيطة عند دمج أي نوع من أنواع النظم الإشارية فيها لاستخدامها في تعليم الأطفال الصم؛ إذ إن اقتصار بعض الأطفال الصم على استخدام لغة الإشارة فقط - دون غيرها من طرق التواصل الأخرى - قد يعتبر بالنسبة لهؤلاء الأطفال أمرا معقولاً إلى حد كبير، حيث تكفل لهم التمكن من أي نظام إشاري آخر، كما أنه من غير الواضح حتى الآن ما يمكن أن يترتب من نتائج على استخدام معلمي الصم خليطا من أنظمة (طرق) التواصل المختلفة التي يعتمد بعضها على السمع وبعضها الآخر على البصر في عمليتي تعليم هؤلاء الأطفال وتعلُّمهم، أو في عمليتي استقبال المعلومات والتعبير عنها(الدماطي،2005).
المقوم الثامن
أما المقوم الثامن والأخير من مقومات إنشاء أي برنامج تدخُّل مبكر لبناء وتأسيس وتنمية مهارات اللغة والتواصل فهو تدريب صغار المعوقين سمعيا على استخدام المعينات السمعية بشكل مطَّرد وثابت، والإفادة منها في بناء وتنمية مهاراتهم في اللغة والتواصل. إذ ينبغي أن تتوفر في هذا البرنامج منظومة كاملة من الخدمات الأوديولوجية (السمعية) بحيث تتضمن الخدمات التالية:
- تقييم دقيق لقدرات الطفل وأدائه السمعي وما يتوفر لديه من بقايا سمعية، وتشخيص واع لطبيعة قصوره السمعي.
- استعدادات وأجهزة خاصة لقياس الأداء السمعي للطفل بشكل دوري بعد أن يتم تزويده بمعين سمعي hearing aid (سماعة).
- تسهيلات وأجهزة خاصة لتقدير فعالية المعين السمعي (السماعة) الذي زُوِّد به الطفل وتقييم أدائه الوظيفي تقييماً أليكترونياً.
- متابعة تعليمية أوديولوجية مستمرة.
ومن هنا فإن أولى تلك الخدمات الأوديولوجية (السمعية) بل وأهمها جميعا تتمثل في القيام في أسرع وقت ممكن من الطفولة بتقييم ما يملكه كل طفل معوق سمعيا من بقايا سمعية، إذ ينبغي أن يقوم أحد الأوديولوجيينaudiologist المختصين في قياس السمع ممن لديهم ألفة ودراية وخبرة عميقة في تقييم بالغي الصغَر من الأطفال المعوقين سمعيا بتحديد مدى استجابة الطفل للإشارات الصوتية الكلامية والنغمات النقية في أدنى مستوياتها، كما ينبغي له القيام بتقدير دقيق لما يملكه الطفل من إمكانيات لمعالجة ( تجهيز) الكلام وتوظيفه وبخاصة في شكله المُعان (أي بعد أن يتم تكبيره بواسطة المعين السمعي).
كذلك فإنه ينبغي لوالد الطفل أو والدته والأوديولوجي المختص في قياس السمع وتشخيص القصور السمعي أن يتعاونا سويا في تنسيق جهودهما للحصول على التوصيات المتعلقة بخصائص المعين السمعي الذي يمكن للطفل استخدامه وذلك في أقرب وقت ممكن بعد أن يتم تشخيصه والتثبت من إعاقته السمعية.
ومما يساوي ذلك في أهميته اتخاذ إجراءات روتينية لمراقبة الأداء الألكيتروني للمعين السمعي hearing aid الذي تم تخصيصه للطفل. فقد امتلأت ـــ للأسف ـــ صفحات السجلات الخاصة بمراقبة هذه المعينات بعديد من وقائع الخلل والقصور والإهمال في تشغيل المعينات السمعية الخاصة ببالغي الصغر من الأطفال المعوقين سمعياً. وغني عن الذكر أنه إذا لم يتم تثبيت العنصر الأساسي لتنمية واستثمار البقايا السمعية التي يمتلكها الطفل المعوق سمعيا فإن أية جهود خاصة بالمعينات السمعية لن تحقق ما يصبو إليه العاملون في برنامج التدخل المبكر من نتائج حول قدرة الطفل على الإفادة من التدريبات السمعية في تنمية واستثمار بقاياه السمعية من خلالها مهما كان تلقيه لها مطرداً ومنتظماً.( Schell,1976)
كذلك فإنه يجب إعداد ترتيبات خاصة واتخاذ إجراءات روتينية لإعادة تقييم كل من بقايا السمع والمعين السمعي الذي يستخدمه الطفل، وكذلك تقييم مدى المقاومة الكهربائية في تلك المعينات بهدف التأكد من عدم حدوث تغيُّرات غير ملحوظة في مستويات سمعه، أو في الأذن الوسطى، أو في تلاؤم المعين السمعي مع حالة الطفل السمعية.
ويمكن كذلك التوصية ــ في بعض الحالات ــ بتزويد بعض الأطفال بوسائل توصيلية معينة بالإضافة إلى الوسيلة الأساسية الخاصة بالذبذبات الحسية اللمسية، حيث يُتَوقع أن تكون التلميحات اللمسية الحسية الصادرة عن الوسائل التوصيلية ذات قيمة في تنمية مهارات الكلام والأداء اللغوي لدى هؤلاء الأطفال.
وتجدر الإشارة إلى أن التقييم السمعي الأدق والأفضل، بل واختيار المعين السمعي الأكثر تلاؤماً مع درجة قصور السمع وطبيعته قد لا يجديان الطفل أي نفع أو فائدة ما لم يتعاون المدرس والوالد معاً على تطبيع الطفل على الاستفادة بأقصى ما يمكنه من معينه المكبر للصوت؛ إذ من المعلوم أن مجرد تأكد المعلم أو الوالدين من أن الطفل يرتدي سمّاعته ( معينه السمعي) في صباح كل يوم قبل أن يغادر منزله للذهاب إلى البرنامج (أو المدرسة) وبعد وصوله إليه لا يعني أنه يستخدمها بشكل فعال في استثمار بقاياه السمعية والإفادة منها في تنمية مهاراته اللغوية وبخاصة مهارات الاستماع أو قراءة الشفاه (Huning,1992).
ومن هنا فإن أي طفل يعاني من قصور سمعي شديد يجب أن يتم تدريبه على الإفادة القصوى من معينه السمعي في:
o الاستماع إلى الأصوات الكلامية عن طريق معينه السمعي.
o التمييز فيما يسمعه بين الأصوات الكلامية والخلفية الضوضائية المحيطة بهذه الأصوات.
o إدراك صوته هو ذاته وتمييزه من غيره من الأصوات الأخرى.
o المقارنة بين النماذج اللغوية والكلامية التي يسمعها من الأفراد المحيطين به وما يبذله هو ذاته من جهود لتعلم اللغة والكلام.
كما تجدر الإشارة إلى أن الأسس التي ينبني عليها تعاون الوالد والمدرس معا في تعويد الطفل على الاستفادة بأقصى ما يمكنه من معينه السمعي الفردي (الخاص به) هي نفس الأسس التي يجب اتباعها في تعليمه الاستفادة من النظام الجماعي لتكبير الصوت ( إذا كان متوفرا في البرنامج). إذ يجب أن تكون الإشارة الصوتية الأساسية صادرة إلى ميكروفون السماعة مباشرة وبمستوى أعلى من الخلفية الضوضائية المصاحبة. كما ينبغي أن تكون إشارة صوتية منبعثة من كلام حقيقي. ولكي نضمن ارتفاع مستوى الإشارة الصوتية الكلامية بدرجة أقوى من مستوى الخلفية الضوضائية المصاحبة لها فإنه ينبغي للمدرس أو الوالد ألا يُبعِد فمه عن ميكروفون المعين السمعي الفردي الخاص بالطفل أكثر من 18 بوصة. ويُفهَم من ذلك أن العمل بصفة ثابتة من مسافة قريبة سواء من المعين السمعي الفردي الخاص بالطفل أو من ميكروفون الفصل المستخدم ضمن نظام جماعي لتكبير الصوت سيكفل للكلام العالي بدرجة عادية قدرا من الشدّة (الكثافة) الصوتية أكبر من شدّة الإشارات الصوتية الأكثر تنافساً (تداخلا) مع الكلام العادي .
وغني عن القول أن مثل هذا الحرص الشديد على أن يكون المتحدث أقرب ما يكون إلى الطفل عند التحدث إليه يجب أن يستمر لفترة قد تمتد بضعة أشهر أو حتى سنوات إذا أردنا للطفل تحقيق أقصى قدر ممكن من الاستفادة من معينه السمعي.