عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-07-2009, 08:33 PM
الصورة الرمزية أم صالح
أم صالح أم صالح غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2008
المشاركات: 158
افتراضي الدسلكسيا في السينما الهندية - إيشان إيقونة الطفولة والفرح

 

الدسلكسيا في السينما الهندية - إيشان إيقونة الطفولة والفرح
( رؤيــة تـحلـيلــية )


طـلال الشرجـبي
المسئول الإعلامي للجمعية اليمنية للدسلكسيا

الدسلكسيا من أكثر الصعوبات التي تناولها المهتمون بالبحث والدراسة؛ كونها صعوبة تعلم خاصة تعيق القدرة على اكتساب مهارات تعلم القراءة والكتابة، وتترك آثاراً على الأشخاص الذين يعانون منها ، أهمها مفهوم الذات المنخفض حيث يصبح هؤلاء يائسين محبطين من عملية التعلم جراء الفشل المتكرر والتعزيز السلبي والاحباطات المتتالية التي تجعلهم يفقدون الدافعية لمتابعة التعلم.

في شهر كانون الثاني مطلع هذا العام بثت قناة الأفلام الهندية ((Zee Aflam)) الفيلم السينمائي العالمي الذي حمل اسم((Taare Zameen Par)) ويعني (نجوم على الأرض) فكان ضيف الشرف في مهرجان الأطفال الدولي السينمائي في مدينة حيدر أباد في تشرين الثاني من العام المنصرم، ونافس مائة وتسعة عشر فيلماً سينمائياً تم فحصها في المهرجان ليحوز على جائزة الأوسكار في المنافسة الدولية، وحقق نجاحاً كبيراً خلال عام من عرضه في دور السينما العربية والعالمية وعلى شبكات الأقمار الصناعية.
قام بتأليفه/أمول جو بت وبطولة الفنان العالمي/ أمير خان والطفل المبدع/دار شيل سوفاري وإنتاج وإخراج الفنان/ أمير خان أيضاً، ويعد هذا الفيلم من الأفلام الهندية النوعية والإستثنائية الذي أنتجته سينما بوليود بنكهة درامية واقعية تعالج قضية اجتماعية وتعليمية وتربوية بأسلوب فني ومعرفي ورؤية فريدة حيث تدور أحداث الفيلم في سياق إنساني حول الطفولة وقسوة الآباء وجفاء المجتمع تجاه فلذات الأكباد الذين لا يجدون أنفسهم في عالمنا.

( إيشان ) ضحكة السكون وموسيقى الفرح.. رمز الطفولة في حياتنا.. يحب الألوان والرسم على الجدران.. فتى صغير ذو ثـمانية أعوام امتاز بفرط النشاط وعدم التركيز وكثرة الحركة، أشعرته الدراسة بالملل والإحباط لما كان يعاني من صعوبة في التعلم وعجزه عن التفريق بين الحروف والكلمات وفهم النص المكتوب والتهجئة وصعوبة التمييز بين اليمين واليسار وكتابة الكلمات أو الأعداد بطريقة معكوسة، فأثرت بذلك على مستقبله وعلى مستواه العلمي وتحصيله الدراسي ورسوبه المتكرر في المدرسة فنتج عنه مشاكل عديدة، استاء منه معلموه فأطلقوا عليه لقب (ملك الأغبياء) ، وسخط عليه والده وطغى التعزيز الخاطئ ومفهوم الذات المنخفض فعامله بقسوة.. وجرح فيه الأنا دون معرفة ظروفه وسبب تصرفاته وقرر إرساله إلى مدرسة داخلية بعيداً عن أسرته وعالمه الصغير وغرفته الخاصة المفعمة بالطفولة والإبداعات الجميلة.

شعر إيشان باليأس والإحباط معاً.. وفقدان الأمان وضياع نفسه في وسط لم يألفه.. طفل صغير واجهته مشاكل في التعلم دفعته نحو الانطواء والعزلة عن أقرانه؛ فوالده لم يتفهم مشكلته فعزا تقصيره في الدراسة إلى الغباء والإهمال دون أن يمنحه الثقة والصبر وسعة الصدر، ولم يدرك أن هناك ثمة عوامل وأسباباً خارجة عن إرادته؛ كونه يعاني من مشكلة ما في حياته لما يواجهه من صعوبة في عملية التعلم.. وهذا ما اصطلح على تسميته حديثاً بالدسلكسيا (عسر القراءة) وهي اختلاف في تركيبة المخ في الجزء المتعلق بتحليل اللغة وتأثيرها السلبي على المهارات المطلوبة في القراءة والكتابة وعلى التحصيل الدراسي وامتداد أثرها إلى النواحي النفسية والمهنية وأنشطة الحياة اليومية.

في يوم ما قدم أمير خان إلى تلك المدرسة البعيدة كمدرس للرسم فتعرف على إيشان وحاز على اهتمامه ولفت انتباهه.. طفولته.. براءته.. بريق عينيه.. وشروده الحزين ووضعه المدرسي والأسري الحرج، أقترب منه فرأى فيه تميزا وتفردا في جوانب فنية وإبداعية، أدرك أنه يعاني من شيء ما في حياته، فسكنه هم التغيير وأبدى تعاطفاً مع مشكلته التي عجز عن اكتشافها الآخرون، فعمد إلى تقوية ثقته بنفسه، وأخبره عن نماذج من الشخصيات العالمية مصابة بحالة الدسلكسيا وعانت صعوبة التعلم في صغرها لكنها لم تستسلم أو تصاب باليأس أمثال: توماس أديسون، إينيشتاين، والت ديزني، إبيشان، أجاثا كريستي، وليوناردو دافنشي .... وجميعهم تغلبوا على تلك الصعوبات فأبدعوا للعالم وقدموا للبشرية مخترعاتهم واكتشافاتهم وإبداعاتهم في شتى المجالات الإنسانية.. وإن معدل ذكائهم مكنهم من التفوق والإبداع.


إيماناً بدوره الرسالي والتربوي والإنساني تواصل المعلم مع والديّ الطفل إيشان فزارهما في المنزل ليقوم بدور التوعية الأسرية، فشرح لهما الظروف المحيطة بولدهما وأبعادها التعليمية والتربوية مؤكداً، لهما أن إيشان ليس غبياً أو مهملاً كما تصورا بل مصاباً بالدسلكسيا ولا علاقة بينها وبين مستوى الذكاء، فلكل طفل قدراته الخاصة المختلفة عن أقرانه، وتكمن مشكلته في كونه لا يرى الكلام المكتوب كما يراه الشخص العادي مما سبب لديه شعوراً بالنقص والدونية الذي يعود مصدره إلى الإدراك البصري وكيفية انتقال المعلومة من العين إلى الدماغ وليس متعلقاً بمعدل الذكاء.. ليؤكد حديثه بعرض نماذج من دفاتر إيشان ودروسه التي تميزت بكتابة الكلمات والأعداد معكوسة وتكرار الأخطاء وعدم فهم المعنى والخلط في الاتجاهات وصعوبة التمييز بين اليمين واليسار.... وغيرها من أعراض الدسلكسيا التي تحتاج إلى الصبر وسعة الصدر وبذل الجهد وتقدير الذات وعدم جرح الأنا بكلمات قاسية تقلل الاستجابة ودافعية التعلم.

في مشهد إنساني أنتقل المعلم إلى مدير المدرسة ليشرح له مشكلة تلميذه ويؤكد له أن إيشان طفلٌ ذكي فعرض عليه رسوماته التي تميزت بضربة ريشة واثقة واستخدام ألوان جريء فهو يمتلك موهبة في الرسم والإبتكار ولديه مقدرة على التخيل الواسع، واصفاً حالته ووضعه التعليمي الناتج عن إصابته بالدسلكسيا إحدى صعوبات التعلم الخاصة التي تؤثر سلباً على طريقة التفكير وعلى المستوى العلمي ومهارات القراءة والكتابة وعلى النواحي النفسية والتحصيل الدراسي، فطلب منه التجاوز عن أخطائه- بعض الوقت- جراء شكاوى المدرسين وتذمرهم منه لعدم قدرته على الكتابة والقراءة والتركيز داخل الفصل؛ اقتنع مدير المدرسة بوجهة نظر المعلم الذي تعهد بالاهتمام بإيشان وبمزيد من الوقت والجهد سيجعله يتجاوز تلك الصعوبات ويتغلب عليها ليضع نفسه أمام تحد كبير.

كان المعلم ودوداً ومرحاً فاقتحم عالم تلميذه الصغير وغاص في مكنونه.. بدأ في علاجه بطرق تعليمية.. اكتشف مشكلته فأعطاه الثقة وأسبغ عليه التقدير ومنحه التشجيع والتعزيز الإيجابي من خلال التواصل الإنساني الجميل، منمياً نقاط القوة لديه مبتعداً عن إثارة نقاط الضعف، عمد إلى تطوير طرائق التدريس المستخدمة من خلال تنبيه الحواس كالتعلم باللمس واستخدام المحسوس والصور والرسوم والمجسمات حيث أثبتت الدراسات الحديثة أثرها الإيجابي والفاعل في دعم عملية التعلم عند الأطفال وفي استخدام التقنيات الحديثة كالحاسوب، والإنتقال من المحسوس إلى الـمجرد وربط الخبرات القديمة بالجديدة، واستخدام التعليم الذاتي للتدريب على مهارات القراءة والكتابة بطرق خاصة ليحقق بذلك تقدماً مذهلاً وكبيراً على الصعيد التعليمي والدراسي للطفل إيشان الذي شعر بثقة وأمان حين اهتم معلمه بأمره.


توالت الأحداث الدرامية للفيلم.. وفي سياق إنساني مؤثر دعا المعلم إلى يوم للرسم المفتوح في خطوة لتعزيز الثقة لدى تلميذه وتنمية مفهوم الذات لديه، أخبر مدير المدرسة بفكرته وبدأ في تنفيذها ليشارك في الكرنفال جميع الطلاب والمدرسين دون استثناء، وفر أدوات الرسم وتقاطر الجميع إلى مدرج المدرسة للمشاركة في مسابقة يوم الرسم المفتوح لتصبح الريشة هي عنوان الفرح والألوان قناديل الضوء على مساحات بيضاء في منافسة جمالية وإنسانية؛ وفي لحظة حاسمة ومؤثرة يعلن مدير المدرسة عن فوز أفضل لوحة فنية وتشكيلية تستحق الجائزة الكبرى لتكون من نصيب إيقونة الطفولة وربيع الفرح إيشان.

ابتهج الجميع بقلوب فرحة ومشاعر ملونة.. وعلا الهتاف والتصفيق الحار أرجاء المدرج ممتزجاً بأنغام موسيقى حزينة فابتسمت العيون واشرأبت الأعناق، وتطلع المشاركون لرؤية إيشان وهو يتقدم بخطوات بريئة متعثرة لاستلام جائزته، وفور تسلمه لها عاد مسرعاً لمعانقة معلمه الذي كان واقفاً على مقربة منه لتسبقه دموعه فيطوقه بكلتا ذراعيه ويرتمي في أحضانه اعترافاً بفضله ووفاء لجهده في لقطة تراجيدية ومشهد حزين مؤثر أبكى الجميع.


هنا ينتهي الفيلم بنجاح الطفل/إيشان في دروسه ومقدرته على القراءة والكتابة وتغلبه على صعوبات التعلم وتفوقه على زملائه بإبداعه الجميل ليُعزى ذلك النجاح الأسطوري إلى معلم استثنائي خبر واقع تلميذه، واكتشف عوالمه وقام بأداء واجبه ورسالته بوعي ومحبة واقتدار.. فكان سبباً في صنعه مبدعاً ونجماً يمشي على الأرض.

تلك كانت رؤية تحليلية مختزلة لمحاولة اكتناه أحداث فيلم سينمائي اتسم بالواقعية والإنسانية وتناول ثنائية العلاقة بين الذات والآخر- المعلم والتلميذ- في تواشج حميمي يجسد الصورة المثالية والنموذج الرائع الذي ينبغي تمثله في واقعنا ونفتقده في مؤسساتنا التعليمية الغائبة عن مواكبة المتغيرات والتطورات التربوية في ظل فقر معرفي بالدسلكسيا ونظريات ومبادئ التعلم في منظومة التربية الشاملة.

 

رد مع اقتباس