عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-20-2009, 08:43 PM
الصورة الرمزية عبقرينو
عبقرينو عبقرينو غير متواجد حالياً
عضو ذهبي
 
تاريخ التسجيل: Mar 2008
المشاركات: 456
افتراضي تنشئة الطفل والتوظيف التربوي للتراث

 

تنشئة الطفل والتوظيف التربوي للتراث

بقلم : أ.د. محمد الدريج
استاذ باحث في علوم التربية- الرباط


تقديم : لماذا توظيف التراث ؟

نهدف من إنجاز هذه الدراسة التحليلية ،طرح بعض الإشكالات وعرض جملة من الملاحظات و الأفكار و المقترحات الخاصة بالدور الذي ينبغي أن يلعبه التراث ، عند توظيفه التوظيف التربوي السليم ، في تنشئة الطفل وتشكيل شخصيته وثقافته بما يستجيب لمطامح مجتمعاتنا العربية و الإسلامية . وكذلك قصد خلق حوار مثمر في بعض القضايا المرتبطة بموضوع الطفولة ، وتعميق النقاش حول مختلف جوانبه ، والخروج بنتائج و توصيات هادفة ، تساهم في تطوير العمل الثقافي بشكل عام والتربوي بشكل خاص.
لقد أصبح ، كما هو معلوم ، الاهتمام بثقافة الطفل من الضرورات الملحة ، نتيجة ما تواجهه أمتنا في وقتنا الراهن من تحديات وضغوطات و من غزو ثقافي وإعلامي ، ونتيجة التغيرات السريعة المحيطة بالطفل والتي لا يكون مستعداً دائماً لمواجهتها ولا يكون مسلحاً لمقاومة ما تحدثه فيه من آثار سيئة من مثل خلخلة نظامه القيمي واضطراب تصوراته وفقدان ثقته بنفسه وفي مجتمعه.
هذا وإذا كانت المجتمعات تلجأ دائماً إلى تراثها الحضاري كلما أعوزتها الوسيلة للمقاومة و الاستمرار، فحري بنا أن نلجأ نحن إلى تراثنا الزاخر لتطويره وتوظيفه في تعليم الأطفال وتنشئتهم وتثقيفهم بما يضمن لهم شخصية قوية ومتوازنة لمواجهة مختلف التحديات وجميع أشكال الانحراف .
ولقد تمثل أعسر امتحان ابتلت به أمتنا في الاستعمار والهيمنة ، فكان أقوي سلاح واجهت به هذه البلوى ، هو التمسك بحضارتها العربية الإسلامية العريقة وبإرثها الثقافي الذي حاول المستعمر طمسه وتشويه معالمه .
هذا كما واجهت الأمة ولازالت ، قضايا لا تقل خطورة عن استرجاع الحرية والاستقلال وفي طليعتها قضية الوحدة و قضية التنمية الشاملة . فكان من الضروري اللجوء إلى التراث والموروث الشعبي على وجه الخصوص ، لاستقرائه وتوظيفه في الاتجاه الذي يعمل على ترسيخ سبل الوحدة الوطنية والقومية وتسريع وتيرة التقدم و الازدهار .
وهكذا يغدو التراث في جميع أبعاده المادية والروحية، العنصر الفعال في حركة التطور وفي سيرورة الوحدة ، لما يوفره من عناصر القوة وعناصر التلاحم.
كما يغدو التراث مصدر ثراء حضاري ورافداً من روافد ثقافة المجتمع . لذا ، فإن العمل على تطوير جوانبه المشرقة يعد شرطاً أساسيا لاستمرارنا ووصل ماضينا بحاضرنا من أجل المستقبل .

كل هذا يفسر ويبرر في الوقت ذاته ، الأهمية التي أصبحت تولى للتراث وتطويره وتوظيفه في تربية الأجيال .
فإن السؤال الذي يطرح منذ البداية، هو ما معنى الربط بين الطفل والتراث ؟ فهل يعني ذلك البحث في صورة الطفل ، كما يمكن أن نستشفها و نبلورها من خلال تحليلنا لمختلف مظاهر الإرث الثقافي وما يتضمنه من أفكار و اتجاهات و مواقف و ممارسات حول الطفل والطفولة وحول أساليب التربية و أنماط التنشئة الاجتماعية ؟ أم المقصود هو توظيف التراث في تربية الطفل . فبعد دراسة التراث واستخلاص ما يتضمنه من عناصر إيجابية – وهي كثيرة – نقوم في مرحلة لاحقة بإدماجه في مناهج تعليمنا وأساليب تربيتنا بشكل عام ؟ . وكيف يمكن أن يتم ذلك ؟ ثم ألا يتعارض مثل هذا المشروع مع الموجات التي تنادي بالمعاصرة و تروم الحداثة ؟ وما هو احتمال نجاحنا وتفوقنا أمام جميع التحديات التي تحاصرنا من كل الجهات وأمام ضرورات التطور ومقتضيات المعاصرة؟
وأخيرا، ألم تعد مسألة الهوية الثقافية التي لها علاقة وطيدة بإحياء التراث قضية متجاوزة ، أو على الأقل تحتاج إلى إعادة النظر ، بفعل العولمة وما يصاحبها من انفجار تكنولوجي في مجالات الإعلام والاتصال و المواصلات ، والتي أصبحت تشكل خرقا سافرا لخصوصية الثقافة وتحديا خطيرا للشخصية الوطنية ؟
كانت هذه أهم التساؤلات التي راودتنا منذ بداية التفكير في هذا الموضوع .

لكن وإذا كان التراث من المكونات الأساسية في بناء الحضارة الإنسانية بشكل عام ، وفي بناء مكونات الشخصية الفردية بوجه خاص، فإننا لا نعني بالتراث ما يلصقه به البعض من معاني قد حية وسلبية فينسب إليه خطأ ، الانصراف عن الحاضر والنكوص في شبه انهزام وتقوقع في الماضي . فارتبط الاهتمام بالتراث لدى البعض بعمل أشبه ما يكون بنبش القبور والعبث بعظام الموتى ومسامرتها و استنطاقها \". هذا المعنى الذي دفع ببعض الناس إلى الدعوة لقطع الصلة بالماضي والاستهانة بأمجاده ، و الاعتقاد بأن التقدم هو في التنكر للتراث الذي يشكل في نظرهم سجناً وليس فضاء للتحرر وارتياد الآفاق . والواقع أن مثل هؤلاء يغفلون النظر إلى حقيقة الإنسان وأبعاده الزمانية . فالإنسان كائن حي وجوده السوي رهين بالأبعاد الثلاثة للزمان : الماضي ، الحاضر ،المستقبل . فهو الكائن القادر على احتواء الماضي وارتياد مكوناته واستيعابها لاتخاذها أساساً لبناء الحاضر والتطلع نحو المستقبل.
إن ماضينا مليء بالمفاخر ، و الباحث في أسس الحضارة الإنسانية الحالية يجد بشهادة التاريخ وبشهادة الجميع ، أننا قدمنا للإنسانية رسالة فكرية وعلمية وحضارية جد هامة . فعلماء الإسلام هم اللذين ابتدعوا مناهج البحث العلمي التجريبي وعنهم اقتبسته الحضارة الحديثة ، فكان منطلقاً لما يشهده العالم من ثورة علمية وتكنولوجية .فكيف يمكن للمربي إذن ، أن ينقل إلى الطفل هذه الصورة الايجابية عن ماضيه وكيف يمكنه أن يفسر هذه الحلقة المفقودة في تاريخه ، خاصة إذا كان هذا الطفل يفتح عينيه بانبهار شديد على الثقافات الأخرى .إننا في حاجة إلى تنشئة الطفل على إحساس يجعله يعتد ويفخر بماضيه . ويجعل ما يتضمنه من جوانب مشرقة سنداً قوياً في الإحساس بوجوده و ذاته في قلب الحضارة الإنسانية المعاصرة ،شديد الثقة في إمكانياته العقلية والوجدانية. هذا جانب من الجوانب التي تشكل محور هذا العمل ،أما الجوانب الأخرى فترتبط بالطفل ذاته في التراث، صورته ،مكانته ، قيمته ،حقوقه ، أساليب رعايته وقضاء حاجياته ...
الواقع أنه ، على الرغم من أن الطفولة كشف علمي حديث، ظهر نتيجة دراسات علمية ( نفسية واجتماعية و بيولوجية )، فإننا نجد في تراثنا مواقف إيجابية نحو الطفل والطفولة ، فقد نظر العلماء المسلمون ، على سبيل المثال ، إلى الطفل نظرة إيجابية وعميقة كما طالبوا بمعاملته معاملة حسنة رشيدة تشخصت في جملة من الأساليب التي عاملته بفطرة سليمة وخبرة تستند إلى أفكار إنسانية مشرقة ، استوحاها المسلمون من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ،ومن كتابات الأ قدمين وتجارب حياتهم اليومية . لذلك فإن المتطلع إلى تراثنا – في هذا الجانب – يجد فيه من الغنى والثراء ما قد يشكل نظرية قائمة الذات ، بإمكانها المساهمة بفعالية في تطوير واقعنا التربوي في اتجاه تحقيق المثل العليا وتأكيد أصالتنا الحضارية وترسيخ جذورها ، في ذات الوقت والعمل على التقدم و الازدهار .
لذلك أصبح الاهتمام بثقافة الطفل في عالمنا العربي والإسلامي من الضرورات الملحة ، نتيجة ما يواجهه في وقتنا الحاضر من تحديات وضغوط ومن غزو ثقافي و إعلامي ونتيجة التغيرات السريعة التي تحيط بنا من كل جانب .

 

رد مع اقتباس