من أسباب التفكك الأسري
عني ديننا الحنيف بالأسرة عناية فائقة. وإذا أرادت الأسرة أن تعيش حياة كريمة وتحقق غايتها الأسمى، فمن واجبها أن تعيش في نور القرآن وهدي السنة النبوية الشريفة وعدل الإسلام. ذلك أن الالتزام بالأسس الشرعية للزواج وبأحكام الدين الحنيف يكفل للأسرة استقرارها وأمنها ونيلها العيش الكريم والسعادة والرفه.
غير أن الأسرة المسلمة في عالمنا المعاصر تعرضت إلى تحديات ومشكلات غير مسبوقة. وقد وجدت نفسها في وضع يكاد يكون مربكًا، لمسه المربون وشكا منه الأزواج. وترجع مظاهر التفكك الأسري إلى أسباب وعوامل متعددة ومتشابكة ومتداخلة يصعب حصرها. فثمة عوامل دينية واقتصادية واجتماعية ونفسية وسياسية وقيمية وفكرية واستعمارية وغيرها، تهيئ أسباب التفكك الأسري وقد تؤدي إليه. هذا وسنعرض في هذا الفصل، لأبرز أسباب التفكك الأسري.
أولاً: عدم الالتزام ببعض الأسس الشرعية للزواج ابتداءً:
لا بد أن يبنى الزواج على أسس شرعية حتى يكون بناؤه صلبًا، ينعم في ظله الزوجان بالمودة والسعادة، ويكون من ثماره الذرية الصالحة. ومن هذه الأسس الشرعية ما يتعلق باختيار الزوجة الصالحة واختيار الزوج الصالح والرضا الزواجي. ومما لا شك فيه أن حسن الاختيار له دور حاسم في مستقبل الحياة الزوجية واستقرارها وأمن الأسرة وسلامة النسل. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم"(1).
ففي مجال اختيار الزوجة الصالحة يقول تعالى في كتابه العزيز: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } (البقرة:221)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"(2). وفي ذلك توجيه المقبلين على الزواج لاختيار الزوجة على أساس الدين والعقيدة، دون المعايير الأخرى من مال وحسب وجمال، حتى تبنى الأسرة على أسس متينة ثابتة.
غير أن الممارسات الواقعية تشير إلى أن اختيار الزوجة لا يبنى، في أغلب الأحوال، على الأسس الشرعية من حيث اعتماد معيار الدين أساسًا في الاختيار، بل تحول هدف معظم المقبلين على الــزواج إلى المـعــاييــر الأخــرى كجــمــال المــرأة والمكــاســب المــادية أو الاجتماعية التي سيحققها الزواج والمصاهرة. وغدا الزواج مشروعًا ماديًا دون الغاية الأسمى وهي تكوين الذرية الصالحة والتحصين من المفاسد. ويحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختيار الزوجة على أساس آخر غير الدين بقوله: "من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرًا، ومن تزوج إمرأة لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج إمرأة ليغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه، بارك الله له فيها وبارك فيه"(1). وقــد ورد عــن النــبي صلى الله عليه وسلم قـوله: "إياكم وخضـراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء"(2).
وفيما يتعلق باختيار الزوج، ينصح الإسلام باختيار الزوج ذي الدين والخلق، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"(3)، وقال رجل للحسن بن علي: "إن لي بنتًا، فمن ترى أن أزوجها له؟ فــقــال: زوجـــهـا مـمـــن اتقى الله، فإن أحبــها أكــرمها وإن أبغــضها لــم يظلمها".
غير أن الممارسات الواقعية تشير إلى أن الدين لم يعد معيارًا لتقيــيم أهليــة الشــاب المقبل على الــزواج، بعد أن تحول الزواج، كما أسلفت، إلى مشروع مادي واجتماعي. فقد أصبحت الأهلية للزواج مرتبطة، في معظم الأحيان، بوظيفة الزوج ومكانته الاجتماعية، وراتبه الشهري ورصيده في البنك، وممتلكاته وقدرته على الإنفاق على الزوجة وأسرتها بسخاء. وبذا لم يعد مفهوم الزواج في الأسر المسلمة مختلفًا عنه في الأسر غير المسلمة، نظرًا لضياع المقاصد الشرعية من الزواج، الأمر الذي سرعان ما يفضي إلى تفكك البناء الأسري.
وقد حث الإسلام على ضرورة قبول الزوجين ورضاهما عن بعضهما بعضًا لتدعيم الاستقرار الزواجي والبناء الأسري. فالزواج يحقق السكن والمودة والرحمة، مصداقًا لقوله تعالى: {ومــن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم:21).. ويرتبط الرضا الزواجي بالمحبة المتبادلة بين الزوجين. أما سوء التوافق بين الزوجين وفقدان حالة التوازن في العلاقة الزوجية فيؤدي إلى عدم الرضا الزواجي وصعوبة دوام المعاشرة بين الزوجين، وبالتالي انهيار الزواج وفشله.
كما يرتبط الرضا الزواجي بالمنظومة القيمية للزوجين، فقد يعلق بعض الأزواج فشل العلاقة الزوجية وعدم قدرته على توفير الحياة الأسرية الناجحة على شماعة معتقداته بأن "وجه زوجته نحس عليه"، مما قد يؤدي إلى نفور الزوجة وانطوائها ومشاحناتها مع زوجها ومع أفراد الأسرة والآخرين.
وتتفاوت الآثار السلبية الناتجة عن سوء الاختيار وعدم الرضا الزواجي تبعًا للفروق القيمية والعمرية والثقافية بين الزوجين والانتماء الطبقي الاجتماعي لهما، مما قد يولد الشعور بالظلم لدى الزوجة وسوء معاملة الزوج لها، وأشكال العنف الجسدي والنفسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرها من مظاهر عدم الاستقرار الزواجي الذي قد ينتهي بالطلاق في معظم الأحيان.
ثانيًا: المشكلات الأسرية:
قد تتخلل الحياة الأسرية مشكلات تؤدي إلى اضطراب العلاقات بين الزوجين وإلى السلوكات الشاذة والتعاسة الزوجية، مما يهدد استقرار الجو الأسري والصحة النفسية لكل أفراد الأسرة. ويصدر النزاع والشجار عن أزواج غير متوافقين مع الحياة الزوجية، نظرًا إلى عــدم وضـــوح دور كل منهما وتفكــك شبكة العــلاقــات بينــهما، مما يؤدي إلى شعور الزوجين بخيبة الأمل والإحباط والفشل والغضب والنزاع والشجار.
ويعد النزاع والشجار المتكرر بين الزوجين عاملاً رئيسًا في التفكك الأسري. ولا شك أن حالات النزاع والخصومة التي تجري على مرأى من الأبناء تترك بصماتها على شخصياتهم؛ فنجدهم يهربون من جو الأسرة المضطرب المشحون بالخوف والقلق والصراع، وعدم الاستقرار، باحثين عن بديل يتقبلهم وينتمون إليه ويصبحون أعضاء فيه. وفي أغلب الأحوال يكون هذا البديل هم رفاق السوء الذين يعلمونهم العادات السيئة والسلوكات المنحرفة، فيصبحون عناصر هدم بدلاً من أن يكونوا عناصر بناء ومصدر سعادة لأسرتهم ومجتمعهم.
كما أن تكرار النزاع بين الوالدين على مرأى من الأبناء ينعكس على نموهم النفسي، وقد يكون سببًا في حالات التمرد والعصيان على الوالدين أو على أحد الوالدين الذي يكون أشد ظلمًا أو أكثر قسوة من وجهة نظرهم، الأمر الذي يؤدي إلى إحداث شرخ بين الآباء والأبناء وشيوع الفوضى داخل الأسرة الواحدة، قد تنتهي بتفرق شمل الأسرة وتشرد الأبناء وضياعهم والشعور بالكراهية والحقد والرغبة في الانتقام من الوالدين والمجتمع بشكل عام.
وتشير نتائج الدراسات إلى أن أبناء الأسر المفككة الذين يعيشون في مناخ أسري مضطرب يسوده الشقاق وعدم الترابط كانوا أقل ثقة بأنفسهم، وأكثر قلقًا وتوترًا، وأقل توافقًا في علاقاتهم الاجتماعية مع الآخرين، وأكثر رفضًا للحياة الأسرية التقليدية من نظرائهم الذين يعيشون في أسر مترابطة متحابة يسودها الأمن والتضحية والتعاون ووضوح الأدوار(1).
هذا ومن الجدير بالذكر أن الخلافات الزوجية قد تؤدي إلى خلافات بين الإخوة، وأن الخلافات بين الإخوة قد تفضي إلى خلافات بين الزوجين. وقد تضطرب العلاقات بين الإخوة فيقسو الابن الأكبر على الأصغر، أو الأولاد على البنات، أو الإخوة غير الأشقاء على بعضهم بعضًا، فتصبح الأسرة مفكـكـة غـير متـماسـكة، تـهددها الأزمـات التي ينبغي تداركها، وإلا فسيحدث الشقاق الذي ينبغي إصـلاحه، وإلا فسيحدث الطلاق الذي يعصف بالحياة الأسرية برمتها.
وقد أجــاز الإســلام للزوج أن يجمع بين أربع زوجــات فـقط. فإذا تزوج أكثر من واحدة، وجب عليه أن يعدل بين زوجاته فيما يقدر عليه من التسوية. وللتسوية بين الزوجات قواعد وأصول حددها الإسلام. ويذكرنا سبحانه وتعالى بأن إقامة العدل بين الزوجات ليست مهمه سهلة، قال الله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} (النساء:129)، ويؤدي عدم العدل بين الزوجات، عند التعدد، إلى نشـوء الخــلافات الأسرية واضطراب المناخ العـائلي وظـهــور أشكال الحقد والحسد والانتقام بــين أفراد الأسرة الواحدة.
ويعد الإدمان على المخدرات أو الكحول مشكلة تهز بناء الأسرة بأكملها، ولا يقتصر أثرها على المدمن فحسب. وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة التفكك الأسري في أسر المدمنين تزيد على سبعة أضعافها في أسر غير المدمنين. فكما هو معلوم، فإن المدمن يفقد القدرة على القيام بأعباء الأسرة وأعباء العمل جراء تدهوره صحيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، فيفقد العمل والأصدقاء والصحة والأسرة، ويصبح عبئًا على الأسرة وعامل هدم لبنائها.
كما قد تنشأ الأزمات الأسرية جراء حالات الاضطرابات العقلية والنفسية والأمراض المستعصية التي قد يصاب بها أحد أفراد الأسرة، مما قد ينعكس سلبًا على بقية أفراد الأسرة. فتسود الأسرة مشاعر الاكتئاب والإحباط واليأس من الحياة وفتور العلاقات الأسرية.
ثالثًا: فشل الوالدين في التنشئة الأسرية السليمة لأبنائهم:
الأبنــاء هم زينــة الحيــاة الدنــيا وأنــس الوالــدين في حــياتهم. بهم تحلو الأيام، عليهم تعلق الآمال ويضاعف الثــواب. ويتوقف ذلك على التنشئة الاجتماعية السليمة التي تجعلهم عناصر خير ومصدر سعادة. أما إذا لم يحظ الأبناء بالرعاية الوالدية والتوجيه السليم فسوف يصبحون عوامل هدم للأسرة.
وعلى الوالدين أن يدركا عظم المسؤولية الملقاة عليهما تجاه أبنائهم. وليس أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"(1).
فالرجل والمرأة مسؤولان عن تربية الأبناء وتنشئتهم التنشئة السليمة وإنماء شخصياتهم. والأسرة عمومًا تمثل أول مجموعة مرجعية ينتمي إليها الطفل ويقتدي بها وتلبي حاجاته وتعلمه القيم والاتجاهات الاجتماعية المرغوبة. فهي المسؤولة عن إشباع حاجاته البيولوجية والفسيولوجية من طعام وشراب وماء، أما إذا فشلت الأسرة في إشباع تلك الحاجات، فلن يتحقق النمو النفسي السوي. فالفقر والعوز يلعبان دورًا هامًا في اضطرابات الشخصية، قد تنعكس على صورة سلوكات إجرامية كالسرقة وحيازة الأسلحة والتهريب وتعاطي المخدرات وغيرها. وعلى الوالدين تأكيد قيمة العمل ومساعدة أبنائهم في الحصول على عمل شريف يؤمن لهم الحياة الكريمة، مع ضرورة عدم إجبارهم على العمل في سن مبكرة، كالبيع على الأرصفة والعمل في الأماكن الصناعية بما لا يناسب سنهم وبما قد يعرضهم إلى سوء المعاملة والاستغلال، لأن ذلك يزيدهم فقرًا وجهلاً.
والأسرة هي المسؤولة عن إشباع الحاجات العاطفية الوجدانية للأبناء كالعطف والشفقة والحب والعدل بين الأبناء والبنات، وتحريرهم من المخاوف والقلق وكل ما من شأنه أن يهدد أمنهم النفسي. فيشعر الأبناء بأنهم محبوبون ومرغوب بهم، وأنهم موضع إعزاز للأسرة. ولن يتحقق ذلك إلا إذا كان المناخ الأسري يسوده الاستقرار والتماسك. فالأسرة هي القادرة على تنمية هذا الشعور بالعطف والتضحية والمحبة، وهي التي تتولاه بالنماء، مما يسهم في استقرار الحياة النفسية والاجتماعية للأبناء، فيما يتعذر إشباع هذه الحاجات في المناخ الأسري المضطرب المشحون بالقلق والصراع والخوف.
كما تلعب الأسرة دورًا رئيسًا في إشباع الحاجة إلى الانتماء الأسري، إذا كانت مترابطة ومنسجمة ومستقرة وحريصة على كيان أفرادها وتسودها المحبة والتفاهم. أما إذا لم تتمكن من إشباع الحاجة إلى الانتماء الأسري لدى الأبناء، تولدت لديهم المشاعر بالغربة عن الذات وعن الأسرة وعن المجتمع بعامة.
وعلى الوالدين مساعدة أبنائهم على تكوين اتجاهات إيجابية نحو ذواتهم ونحو الآخرين بما يحقق التوافق النفسي لهم (بمقابل سوء التوافق مع الذات ومع الآخرين). هذا فضلاً عن ضرورة إشباع الحاجة إلى الاحترام والتقدير وتقبل الأبناء كما هم، ومساعدتهم على احترام الآخرين وعلى تحقيق ذواتهم والاستماع لهم، حتى يتحقق لديهم الشعور بالثقة بالنفس وبالمرغوبية الاجتماعية (بمقابل الشعور بالاضطهاد والنبذ والكراهية والانتقام).
ويعمل المناخ الأسري الصحي على إشباع الحاجات الفسيولوجية والاجتماعية للأبناء بطريقة متوازنة وسوية دون إفراط أو تفريط، وفي ضوء أولويات تلك الحاجات، فيما يعمل المناخ الأسري المضطرب والمتصدع على سوء إشباع تلك الحاجات أو عدم إشباعها إلى حد قد يدفع الأبناء نحو السلوكيات الجانحة وغير المقبولة اجتماعيًا.
كما ينبغي أن يغرس الوالدان القيم الدينية في نفوس الأبناء كالإيمان بالله وبالقضاء والقدر، وتبصيرهم بالحلال والحرام، وتوجيههم إلى العمل الخير النافع وتعليمهم الشعائر الدينية، وحثهم على مكارم الأخلاق كالصدق والأمانة والخوف من الله وحب الخير للآخرين كما يحبونه لأنفسهم، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1)، وتنمية الشعور بالمسؤولية تجاه الجار ورعايته، وصلة الرحم والرحمة بالضعفاء، فضلاً عن تبصير الأبناء بمسؤولياتهم إزاء أنفسهم وأهلهم ومجتمعهم.. غير أننا نلمس بعد الأسرة المسلمة المعاصرة عــن الــديــن وعــن الالــتـــزام بالإســلام قـــولاً وممـارسة، فــالأبنــاء قــد لا يجدون في آبائهم وأمهاتهم القدوة الصالحة ليقتدوا بها، بل قد يجدون فيها أحيانًا قدوة سيئة تمارس الرذيلة، وتنشئهم على الانحراف، وتعزز لديهم السلوكات الجانحة.