المدينة

الكاتب : محمد عيد العريمي

المدينة

الدخول إلى المدينة من جهة الشرق، حيث تقع العيجة، يمر عبر بوابة كبيرة في وسط سور يمتد شمالاً إلى البحر وجنوبا إلى قمة الجبل المطل على المدينة من الشرق والجنوب. توقفت القافلة خارج البوابة واخذ المكاري يقيس ارتفاع البوابة بعصاه ثم يقارنها بارتفاع اعلى حمولة حتى يتأكد من مرور القافلة تحت القوس دون إعاقة.

هذه اول صورة تعلق بالذاكرة عن المدينة.. فليس في الوادي منازل من الطين او الاسمنت، وليس ثمة جدران او اسوار تحجب بعض الناس عن بعضهم الآخر!

دخول القافلة بين ازقة المدينة المكتظة بالسكان، والمنازل، والابراج يأتي لاطفالها بتسلية من نوع آخر تتطلب الجسارة وحسن التوقيت! فتراهم يتنافسون على عبور السكة بين سيقان الجمال وهي تمشي!

ويبدو ان الجمال تعودت على هذه التسلية، فهي لا تحرك ساكناً عندما يبدأ الاولاد ممارسة لعبتهم، بل بدا الامر للصبي وكأنها تسير بوتيرة منتظمة تتيح لهم تقدير سرعتها وحركة سيقانها قبل الانطلاق، وظن انها ربما متواطئة معهم اخذاً في الاعتبار ما فعلته الناقة بأمه واخته الصغيرة عندما جفلت من ارنب بري مر امامها في حين لا تبدي هنا حركة عندما ينسل الاطفال بين سيقانها وهم اكبر حجما من الارانب بكثير.

ورغم محاولات المكاري هش الاولاد بعصاه والتلويح بها لابعادهم الا انه لم يبذل جهداً كافياً
لوقفهم عن تعريض حياتهم للخطر، وسمع يقول:
• اللعنة عليهم، اذا كانوا يريدوا موت لعمارهم ايش تريدني اسوي لهم!

توقفت القافلة عند خيصة العبرة على جانب الضفة الشرقية من خور البطح، وهذا هو آخر مكان تصل اليه القوافل القادمة من الشرق. جاء `راعي العبرة` واولاده للترحيب بالقادمين وتنسيق عملية العبور إلى الضفة الغربية من الخور. ثم جاء بعدهم سعدون الكفيف يلتمس دربه بعصاه تفوقه طولاً عارضاً خدماته لنقل الامتعة إلى هوري العبرة. تزاحمت الأسئلة، لكن الوقت غير مناسب ووالده على غير استعداد الآن للشرح والتفسير!

تأخر وصول العبرة من الضفة الغربية اتاح لعوض الوقت للتعرف والاقتراب اكثر من سعدون. وسرعان ما ألف الواحد منهما الآخر! وعرف ان أهل المدينة لا يرون في سعدون سوى بصره المفقود وقدرته الرهيبة، رغم وهن جسده، على نقل الاحمال والقيام بالاعمال التي يبتعد عنها كثيرون لمشقتها او يتعففون عنها لوضاعتها، والعلاقة التي تربطهم بسعدون لا تتعدى مفرداتها: ارفع، احفر، وخذ!

ترك ذلك اللقاء العابر في وجدان الصبي الذي احس بغربة المكان والناس كما يحسها سعدون وان كان منهم، اثراً سيظل يتذكره طوال سنوات عديدة قادمة! وفي محاولات للقص لم ترى النور بعد ذلك اللقاء بسنوات طوال كتب نصاً قصصياً قصيراً عن سعدون سماه "القراءة في الظلام".

على الضفة الغربية من الخور البطح كان في استقبال الاسرة عدد من اقارب صالح حيث تعاونوا جميعاً على حمل الامتعة الى منزل العائلة الذي يبعد نحو كيلومترين من هناك. ويمر الطريق الى الحارة عبر سكة البوش التي تمتد ما بين البطح الى السوق ثم الى خارج صور من جهة الغرب. ولقد سميت هذه الطريق باسم البوش لانها السكة الوحيدة التي يمكن لقوافل الجمال المرور وهي تنقل شحنات السفن الى السوق او الى خارج المدينة في طريقها الى المناطق الداخلية من عمان!

كان منظر الرجال وهم يتحركون بين السكيك الضيقة وعلى اكتافهم الامتعة يشبه كثيراً قافلة الجمال التي تربط اخطمتها في ذيول بعضها البعض، حيث كانوا يضطرون في زوايا السكيك الى السير بالتتابع والمناورة لتمرير الاحمال دون تعريضها للاصطدام بجدران المنازل العالية.

أثارت المنازل الفخمة ذات الطابقين التي دهنت بمسحوق النورة البيضاء وابوابها ونوافذها الخشبية المحفورة بنقوش جميلة واقواسها المبلطة بقوالب من الجص فائقة الجمال، دهشة الصبي عوض الذي كان يتخلف عن المسير وهو ينظر اليها بانبهار حتى يأتيه صوت والده يحثه على اللحاق بهم.

واذ وصلوا الى المنزل كانت دهشته اكبر وهو يرى ساحل البحر يكاد يلامس جدران البيت. وعندما انفتح الباب كانت المفاجأة اشد من سابقتها حين استقبلوا بالاحضان داخل حوش لا تتجاوز مساحته المئة متر من قبل اكثر من عشرين شخصا: جميعهم سكانه!

بعد وقت ليس بطويل تعرف عوض على السكان والمسكن، وهم: عم والده وزوجته وولدهما وزوجته واولاده واحدى بناتهما واولادها؛ ثم جدته، وعمته وابنتها، وعمه وزوجته وابنهما. اما المسكن فيضم: بخارين وسبلة وبنغلة تطل ابوابها على الحوش، وغرفة تقع في الطابق العلوي.. وتلك اجمل ما في البيت.. بسطحها الواسع المطل على البحر الذي تفرش ارضيته بالحصحيص ويتخذ للنوم صيفا واستقبال ضيوف ساكني الغرفة. ويوجد في احدى زوايا الحوش موقد النار وفي الاخرى المقابلة حظيرة الغنم وبينهما مخزن للاخشاب والسخام ومواد ـ ابلغ اظن ـ انها معدات بحرية.

ولك ان تتخيل مقدار الزحمة التي تنشأ اثناء اعداد الطعام او استخدام المرافق الاخرى، الا ان ذلك لا يمثل اية إشكاليات او خلافات بين سكان المنزل! ولقد استأثرت الاسرة الجديدة بالسبلة وهي افضل الحجر في الطابق الارضي وان لم تخل من بعض السلبيات. وتطل نوافذ السبلة على البحر مباشرة مما يجعل سكانها ينعمون بنسيم البحر الرطب اثناء الحر، لكن هذه الاطلالة تتحول اذا هاج البحر الى ملامسة غير مرغوبة حيث تهز امواجه النوافذ ويعبث الماء المتسرب بالفراش.
ــــ
خيصة: خليج صغير. البوش: الجمال. النورة: بودرة الجبس تطلى بها المنازل قبل دخول الاصباغ الحديثة. السكيك ومفردها سكة: الطرق والازقة الضيقة بين المنازل. بخار: غرفة تكون عادة بدون نوافذ تستخدم للاقامة في الشتاء. سبلة: غرفة ذات نوافذ كثيرة للسكن واستقبال الضيوف، وتكون عادة مرتفعة قليلا عن مستوى ارضية الحوش، وتعد السبلة في عمان رمزا للضيافة. البنغلة: غرفة صغيرة لها نوافذ تستخدم للاعاشة وتناول الطعام، واظن ان اسمها يعود الى الكلمة اللاتينية Panglo. الحصحيص: نوع من المرجان الاسفنجي تصلب وتكسر بفعل حركة الامواج والتيارات البحرية، وتقذف به الامواج على الشواطئ حيث يجمعه السكان وتفرش به الاحواش. ملمسه على الرجل لين ويصدر خشخشة محببة اذا تحرك على بعضه البعض!

 أطبع الموضوع |  أرسل الموضوع لصديق