توطئة (الجزء الثاني)

الكاتب : محمد عيد العريمي

توطئة (الجزء الثاني)

تشكل ذكريات الماضي استراحة ألوذ إليها كلما انتهك الألم حاضري. حضور هذه الذكريات يكون في جله قويا، فيدفعني الى احضان زمن كانت تطغى عليه البراءة وتسوده راحة البال في محاولة ملتبسة لاستدعاء ما اختزنته ذاكرتي وما ذكره لي بعض اهلي.

وحياتي قبل الحادثة، على قصرها، كانت ـ حسب ظني ـ زاخرة بتفاعل بيئات اجتماعية مختلفة وتنوع ثقافي وتباين مدني (من المدنية) على غرار ما جربه معظم شباب تلك المرحلة. وهي حياة عشتها: احببتها أو كرهتها.. كثيراً او قليلاً، بكل ما اتيح لي.. حياة اكتسبت فيها كما بدا لي تجارب غنية على كافة اصعدتها.

ورغم التباين الشديد بين بعض هذه التجارب الا انه يمكن القول إنني ـ كسواي من شباب تلك الفترة ـ استطعت التفاعل مع انماط مجتمعات كانت خصائصها مغايرة لمجتمعنا.

بدأت حياتي من قرية نائية صغيرة قابعة وسط بحار من الكثبان الرملية على التخوم الشرقية لصحراء الربع الخالي الرهيبة، حيث تعتمد حياة اهلها على رعي المواشي وتربية الجمال؛ الى مدينة ساحلية تدور حياة سكانها حول صيد السمك وصناعة السفن والابحار في المحيطات؛ ومن هناك الى بلد يختلف فيه اسلوب الحياة، والثقافة، والقيم، ومجموعة النظم الاجتماعية عمَا نشأت عليه في وطني، حيث يشغل تفكير سكانه حرب النجوم، السفن الفضائية، وشرائح الحاسوب.. بلد يطغى على وقت فراغ سكانه البحث عن اجابة لسر مقتل بطل المسلسل التلفزيوني "دلاس" وبين المكانيين ـ الاول والاخيرـ مناطق اخرى ثرية بالتجارب والممارسات الحياتية!

لاشك ان بث الروح في الماضي يحول المكان والناس إلى كلمات، وغني عن القول ان الكلمات مهما كان صدقها ودقتها لا تكفي للتعبير عن نبض حياة ربما حبلت بمواقف "دراماتيكية" وان بدت في بعض وجوهها عادية! ولعل مردَ الخلل هنا ـ ان وجد ـ يعود إلى وهن الذاكرة على استحضارها وضعف الاسلوب في عرضها.

بيد التصدي لمهمة كهذه دون امتلاك الادوات المناسبة لتحقيقها في افضل صورها مغامرة غير محسوبة النتائج، واذ ذاك، كان لا بد من استعارة بعض أدوات الكتابة الادبية (وانا لست منهم تماما) بغية استحضار نزر من روح بشر عشت بينهم، ومعالم اماكن قضيت فيها سنوات من حياتي من خلال سيرة صبي عاش في تلك الامكنة ومع اولئك الناس.

وهنا يفرض السؤال نفسه! هل عناصر هذه "التوليفة": الحيز، الحدث، والانسان واقعية ام انها تعرضت لغربلة وتنقيح حسب هوى "المؤلف"؟ وهل لعب الخيال دورا في اعادة صياغة خصائص الامكنة وطبائع الناس لكي يستوفي السرد شروط القبول الأدبي ولو كان على حساب الحقيقة؟

من العبث وانا اثير هذه الاسئلة أن ادعي واقعية النص التالي بالكامل، فلا احد يستطيع ان ينقل تفاصيل احداث وقعت ووجوه عاشت قبل اكثر من ثلاثة عقود دون ان تتعرض لبعض التغيير، وليس بوسعي الادعاء انها كانت من القوة والتأثير بحيث ترسخت بتفاصيلها الدقيقة طوال هذه السنين.. خاصة ان أداة استعادتها تعتمد على لا شيء سوى الذاكرة، والذاكرة قيل انها تخون!

بيد انه يمكن التأكيد اني كنت مخلصاً للحقيقة من خلال روحية التناول وكان الرسم ـ بحكم آخرين ـ قد لامس الاصل الى درجة أتاح لبعض من عاش تلك الفترة التعرف، من خلال الاطار العام لمكونات التوليفة، على مكان ما وفلان ما! وهذا يكفي للادعاء ان "النص" فيه من الواقع ما يمكن ارجاعه الى تاريخ محدد وحيز معلوم وملامح وجوه معروفة.

 أطبع الموضوع |  أرسل الموضوع لصديق